هجرة الرسول الأمين محمد- صلوات الله وسلامه عليه- وهجرة أصحابه الذين نهضوا بإيمان صادق، ووفاء بحقوق الدين- تُعَدُّ تحولًا خطيرًا في تاريخ الإنسانية، معبرًا بوضوح عن تحرك الخير، نحو الهدف الأسمى، ومعربًا عن فاعلية قوة الحق، دون ملل أو كلل، في إطار قابل للتكيف حسب منطق العصر.
ومن هذا المنطلق، كانت الهجرة حركة إسلامية رائدة في توطيد دعائم الإسلام، وتثبيت ركائز الأخوة، وبناء الجماعة الإسلامية، التي أخرجت للناس لتكون خير أمة.
وتحمل الهجرة في معانيها سمات التجدد والبناء، والعظمة الشامخة، والقوة الصامدة، والنور المضيء، والأمن المطمئن، ومراقي العلا والسموّ، وبرد اليقين، ونفحات الهدى، وحرارة الإيمان.
وذكرى الهجرة دافع قوي للأمة الإسلامية، في مقاومة الإلحاد، والمذاهب الهدامة التي تكالبت مسعورة على نهش القيم والفضائل.
والهجرة تجيء بعد ثلاثةَ عشرَ عامًا، يدعو فيها الرسول الأمين إلى الإسلام، ويتحمل هو وأصحابه ألوانًا من العذاب، والتشتت والحرمان.
وللهجرة دوافع وأسباب كثيرة، نجملها فيما يلي:
أولًا: اشتداد الأذى بالمسلمين؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29- 33].
وقال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 33، 34].
ولما أسلم نفر من أهل مكة، واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَثَبَتْ كلُّ قبيلة على مَن فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم، ويعذبونهم، بالضرب، والجوع، وبرمضاء مكة إذا اشتدَّ الحَرُّ.
وكان بلال بن رباح صادقَ الإسلام، طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حمِيَت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتُوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله، لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول- وهو في ذلك البلاء-: أحد أحد.
وكان بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه- وكانوا أهل بيت إسلام- إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيقول: «صبرًا آل ياسر، موعدكم الجنة»، فأما أمُّه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلامَ.
ثانيًا: اشتداد الأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن تناله منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله ومعه زيد بن حارثة إلى الطائف، يلتمس النصرة من ثقيف، والمنعة منهم من قومه، ورجاهم أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عزَّ وجلَّ لأنهم كانوا أخواله؛ ولكن الرسول وجد من هؤلاء صدودًا، وإعراضًا، وأذى.
ثالثًا: بيعة العقبة الأولى، وبيعة العقبة الكبرى، وكانت البيعتان تنمَّان عن الإيمان الصادق، والغِراس التي بدأت تؤتي ثمارها، فقد كانت البيعة الأولى على الإيمان بالله وحده، والاستمساك بفضائل الأعمال، وقد تمَّت مع نفر من الخزرج، كانوا بعد البيعة طليعة الدعاة إلى الإسلام في يثرب.
أما بيعة العقبة الكبرى، فقد بلغ فيها الإيمان أوجَّه، وحيث جاء سبعون نفرًا من يثرب، مؤمنين أشدَّ الإيمان بالله، وبالحب فيه، والأخوة على دينه، والتناصر باسمه، ونص البيعة- كما قال عبادة بن الصامت، وكان من النقباء- قال: (بايعنا رسول الله بيعة الحرب، بايعناه على السمع والطاعة، في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمرَ أهلَه، وأن نقول بالحق أينما كان، لا نخاف في الله لومة لائم).
وبهذا الحلف الجديد، انفتح لرسول الله والذين معه من أهل الإيمان بابُ الرجاء في حرية الدعوة.
رابعًا: تآمر قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه؛ قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
بعد بيعة العقبة الكبرى، وما كان فيها من نصرة الإسلام، ومنعة أهله، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابَه أن يلحقوا بالأنصار بيثرب، على أن يتركوا مكة متفرقين؛ حتى لا يثيروا ثائرة قريش عليهم.
وبدأ المسلمون في الهجرة إلى يثرب فُرادى، وقد فطنت قريش للأمر، فحاولت أن تَرُدَّ كل مَن استطاعت ردَّه إلى مكة؛ لتفتنه عن دينه، أو لتعذبه وتنكل به، وبلغت من ذلك أنها كانت تحول بين الزوج وزوجه، وأنها كانت تحبس مَن تستطيع حبسه ممن لم يطعها.
وكانت قريش تحسب لهجرة النبي إلى يثرب ألفَ حساب، فقد كانت تخشى كثرة المسلمين بالمدينة، فإذا لَحِق بهم محمدٌ، كان ذلك قوة للمسلمين تهدد دعاةَ الوثنية، وإذا بقي محمد بمكة، وحاولوا منْعه من الخروج منها، فهم معرضون لأذى أهل يثرب، فلم يبقَ إلا التآمرُ على قتل محمد، وأحكمت المؤامرة في دار الندوة؛ لكن عناية الله كانت تلازم الرسول صلى الله عليه وسلم وترعاه، وتحيط به، وقد أذِن الله له في الهجرة؛ ليغرس شجرة الإسلام في تربة تساعد على النمو، ولا تعرف أحدًا أحق بنصر الرحمن، وأجدر بتأييد الله من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لاقى في سبيل الدعوة ما لاقى.
ولكن التأييد الإلهي لا يعني أبدًا التفريطَ في أسباب الحياة، وترك العمل، والأخذ بالأسباب؛ ولهذا أحكم رسول الله عليه الصلاة والسلام خطة الهجرة، فلم يبقَ بمكة إلا عليٌّ وأبو بكر.
أما عليٌّ، فقد نام على فراش الرسول، وتغطى ببردة الرسول، وكان صلوات الله وسلامه عليه قد أمر عليًّا أن يتخلف عنه بمكة؛ حتى يؤدي الودائع التي كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها، لحق برسول الله.
أما أبو بكر، فقد خرج مهاجرًا مع رسول الله، بعد أن أعد للهجرة ما يلزمها، وانتهى رسول الله وأبو بكر إلى الغار ليلًا، وأقاما فيه ثلاثًا.
وبرغم الصعاب، ووعورة الطريق، وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلها أفراح، والأنصار يتسابقون في الاحتفاء بالنبي الأمين وتكريمه.
وبدأ صاحب الرسالة الكبرى يضع خطوط المجتمع الإسلامي، ويرسم له قواعد السلوك والأخلاق، وكان الإخاء العملي الذي قضى على كل ألوان العصبية؛ ليتفرغ المسلمون إلى مزاولة الشعائر الإسلامية، وتطبيق أحكام القرآن الكريم وتعاليمه، ومن المدينة الإسلامية- قاعدة انطلاق الدعوة- استطاع النبي أن يرسل كُتبه إلى الملوك والرؤساء، يدعوهم إلى رسالة الإسلام.
وفي الدولة الإسلامية أُعد المسلمون ليكونوا قوة رادعة لكل أفاك أثيم، ولا يمكن أن تهتم أمة بإعداد القوة، ثم تظلم من جيرانها، وفي الهجرة دروس مستفادة، يمكن أن يكون فيها عظات بالغة لمن كان له قلب وعقل، ونجمل بعض هذه الدروس فيما يلي:
أولًا: كتم الأسرار، والمحافظة على سير الأمر في نطاق التخطيط المركز، القائم على الإيمان بالله، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم لم يطلع أحدًا على مسيرة الهجرة، إلا من لهم صلة ماسة بها، ولم يتوسع الرسول في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم.
ثانيًا: الاعتماد على الله، مع الأخذ بالأسباب؛ قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
ثالثًا: الإيمان بالله هو دليل الفاعلية والحركية، وذلك أن الإيمان هو الروح التي تحرك الجسد، فتبعث فيه الحياة، وعندئذٍ تكون النفوس مستعدة لتحمل المسؤوليات والتضحيات، ولا بد للمؤمنين من الاختبار والتمحيص؛ لأنه هو الثمن الذي تعز به العقيدة في نفوس المؤمنين، والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابُها تكاليفها، لا يعز عليهم التخلي عنها، والشدائد دائمًا تستجيش مكنون القوى، ومدخور الطاقة، وتفتح قي قلب المؤمنين منافذَ ما كان يعرفها المسلم إلا تحت مطارق الشدائد.
رابعًا: الأخوة الإسلامية القائمة على العقيدة أخوة لا تعترف بالقوميات، ولا باليمين ولا باليسار، تلك الأخوة التي جمعت المسلمين في جامعة إسلامية واحدة.
خامسًا: الدستور القائم على كتاب الله، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وكتاب الله هو ميزان الحق؛ حتى لا تحتاج الأمة الإسلامية في مسيرتها في الحياة إلى تجارب الأمم، وأفكار سماسرة القوانين الوضعية، والمذاهب الهدامة.
وقد أثبت التاريخ والتجربة أن كتاب الله خير حكم بين الناس، ولم يعد المسلمون في حاجة إلى تجارب الاشتراكية والرأسمالية، وما إليهما من اشتقاقات ومذاهب، وكم من الدروس يمكن أن يستقيها المسلم من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ففيها مُثل حيَّة للثبات والصبر، والعزم والصمود، وفيها نماذج فريدة في البطولة والتضحية، ونكران الذات، والفداء، وفيها عمل منظم، وتخطيط مركز، ودراسة واعية، وإحاطة تامة، وتعاون كامل، وإخاء شامل، وإيثار بالغ، ووحدة رائعة، وعزة وإباء، وكرم ووفاء.
الكاتب: خالد شحاتة.
المصدر: موقع الألوكة.